توجد علاقة وطيدة بين الصورة هنا و بين الكلام التالى و هى أنه و على الرغم من أن اجتهاداتى الشخصية السابقة كانت قد قاربت أفكار ذلك الرجل، فلا بد أن أؤكد على أن الشجاعة لم تأتنى لكتابة هذا الكلام إلى بعد أن سمعته منه على ترابيزة اتسعت لسبعة أقراد فى "مقهى نجيب محفوظ" بخان الخليلى حيث امتد الحديث حتى الثالثة صباحاً ليتركنا بعدها هذا الصديق و نحن سعداء...سعداء جداً.
إن خلعت عن أى مصرى ثوبه، ستجد صديرى بلدى يـ40 زرار...هذه حقيقة قد نلف حولها و ندور و نتناقش و قد يظن أحدنا أنه تفوق بعلمه ليكون بلا صديرى. لكن الواقع (و الرأى شخصى) أن عقلية المواطن المصرى - مهما وصل علمه - لا زالت تتبع بشكل أو بآخر النظام القروى للسلطة. للتوضيح: الشيخ محمد سيد طنطاوى أبعد ما يكون عن رضا علماء الأزهر عنه، هو فى الحقيقة غير مرغوب فيه لأنه فى الحقيقة موالس للسلطة و للحاكم. فى الحقيقة أيضاً، أنه لو قرأ أحد علماء الأزهر المضادين لرئاسة الشيخ محمد سيد طنطاوى للأزهر هذا الكلام لن يكتفى بسبى أنا و دينى و ملتى لأنه لا يحق - فى رأيه - لأى شخص أن يبدى قوله فى ذلك سواه، مع العلم بأنه هو شخصياً لا يحتمل أن يواجه فضيلة الشيخ بالمعارضة فى وجهه لأنه الكبير و الكبير ليه اعتباره!! فتجد سليم العوا أو غيره يطالبون هنا و هناك بتغيير نظام اختيار شيخ الأزهر كى لا تكون فى يد الحاكم لكنهم ينزلون لتقبيل يدى الكبير أيضاً. يتجلى الأمر بوضوح حين دخل الشيخ طنطاوى أحد الفصول و فجر قضية النقاب المتداولة حالياً، و على الرغم من أن رأيه غير مرغوب فيه تماماً لكن معارضته أيضاً لم تكن بتلك القوة المتوقعة لكن بالغ أحدهم بأن أكد أنه على الرغم من الإختلاف لكن إطاعة الشيخ واجبه.
ده كان للتوضيح، دعونا نتكلم فيما لنا فيه المصلحة. فى مصر، نحن نحيا فى ظل هذا المجتمع القروى الذى نتبع فيه مبدأ الطاعة بشكل عام، و هنا لا أتحدث عن القهر إطلاقاً و لكن عن الشعور الداخلى بضرورة الطاعة و ضرورة أن يكون هناك كبير و ضرورة أن أكون تابع. قد تكون هذه الحاجة الطبيعية فى الإنسان أن يتبع آخر هى المحرك الأساسى للقدامى للبحث عن الإله الحقيقى. هى الحاجة إلى الخضوع و التى زادت و كبرت حتى طغت على عقول البعض فأضفوا صفة المعصوم من الإثم على بابا الفاتيكان و هى الحاجة التى ألهت شخصيات كثيرة فى حياتنا فرأى البعض بوذا مرسلاً سماوياً و رأى الآخرون "بوب مارلى" نبياً لدين جديد...دين الحشاشين. هى الحاجة التى تجعل كل واحد منا يبالغ فى رسم ملامح قائده الشخصى حتى تتخيله منزه عن الإثم أو أعلى من الشبهات.
طبيعة هذه المشاعر الإنسانية (الحاجة للخضوع) تبدأ مع الإنسان و هو فى أولى مراحله العمرية حين يتولد لدى الطفل إيمان قوى بأن معاقبة أبوه له بأى صورة هى شكل من أشكال حبه له و خوفه على مصلحته، إيمان قوى بأن خطأه فى أى شئ هو ذنب يُعاقب عليه من أبيه بينما خطأ الأب هو قضاء و قدر لا يستحق عليه سوى الإشفاق...هكذا يؤدى تسلط الأب على إبنه إلى تكوين ذلك الخضوع المرضى لدى الإبن بينما هى ممارسات أبوية تهدف فقط إلى تسييس الأمور و السيطرة على الإبن لذات السيطرة أو لإراحة البال من المعارضة التى قد تصدر من الصغير أحياناً و التى تؤدى أحياناً إلى وجع الدماغ و أحياناً أخرى تؤدى لكشف زيف شخصية الأب و إحراجه.
من هنا - و بعد أن يٌفطم الإنسان من خضوعه لأبيه - يبدأ كل واحد فينا البحث عن ذلك الذى قد يأخذ مكان الأب و يكون جديراً بحمل صفاته القديمة كالتنزه عن صفات البشر الطبيعيين كاللا محدودية فى النسك، الثقافة، الإمكانيات الجسدية...إلخ.
مع الأسف جداً، لم تسعى المؤسسات الدينية بمختلف أشكالها إلى تحرير العقل البشرى من هذا الخضوع المرضى بل سعت إلى استغلاله بمنتهى العنف و التجرد من احترام البشر. قد تكون النهضة الاوروبية و نجاح ثورتها الصناعية هى نتيجة لذلك التحرر الفكرى من سلطة الكنيسة و التى انقضت حين أحرجت هى نفسها و بحثوا وراء التخلف الذى عاشوا فيه لسنوات فما كان السبب سوى زيف السلطة الكهنوتية التى اتبعتها اوروبا و كأنها سلطة سماوية، هى التى كفرت جاليليو حين قال أن الأرض مستديرة و هى التى باعت المسيحيين صكوك الغفران ليدخلوا الجنة. هى النتيجة الحتمية لمحاولة الكنيسة فرض سلطتها فيما لا يعنيها و التحكم بمقدرات الإنسان الموهوم بوجوب خضوعه لها.
تحرر الإنسان الأوروبى مما كان فيه...ألف مبروك. فى مصر، لا نستطيع التفكير فى بديل عن "الخضوع المرضى" بين سلطة الكنيسة أو سلطة الحكومة. ليس أمراً عاماً بين الأقباط أن يكونوا خاضعين بهذا الشكل المرضى، و لكنى لا أتذكر أننى قابلت من استطاع إيجاد حل متوسط بين: احترام فكره - عدم تحقير فضيلة الطاعة المقدسة - البحث عن حياة أفضل له و لمن حوله كوصية كتابية على الأقل.
قد أكون مخطئاً و أحتاج لرأى آخر حين أرفض إملاء البابا على الأقباط من يرشحونه فى الإنتخابات الرئاسية. و قد أكون مخطئاً أيضاً حين أرفض الطاعة لرأى الكاهن فى غير دوره الليتوجى أمام المذبح (بدون رأى آخر و مراجعة ممن أكثر منه خيرة). قد أكون مخطئاً إن اعتبرت تدخل الكاهن فى أى مشكلة شخصية أو عائلية و مصارحته بأسرار شخصية و كأنها وصية إلهية و موافقة الكنيسة لذلك هو تجريد للإنسان من حقه فى الخصوصية و مشاركته حريته الشخصية التى منُحت إياه حين نال الحق فى البنوة. هو سر حقيقى أن يحل الله رباطات الخطية فى شكل الكاهن و هو خادم للرعية، لكنه أيضاً يحتاج إلى تحديث حتى تفطم الكنيسة أبناءها فلا يعود الشخص يروى كيف حلف و شتم و كذب بل يتطور إلى فكر البحث عن أصل العيوب و الإرشاد الروحى و إيجاد العلاج بغض النظر عن سرد المواقف و التعديد السقطات أمام الكاهن، حينها يسمو فكر الأعتراف إلى ما يتناسب مع إحترام الإنسان لفكره و تعديل صورة الكاهن من صاحب السلطة إلى الخادم و المعين. فيفصل الإنسان بين سر الكنيسة كجسد المسيح و الكنيسة كمؤسسة قابلة للخطأ و الصواب.
فى كل ذلك و لئلا يأخذ الأمر مساراً آخر، أعتقد أن خضوع الإنسان لآخر يرشده و يقوده بناءاً على خبرته أو حتى عمق إيمانه، هو شئ يجب أن يتناسب بشكل أو بآخر مع تطور فكر الإنسان و قدرته على التفكير و البحث. لأنه و إن ظنت السلطة أن الشعب لا يزال غير قادر على التحرر و الفطام ستكون نتيجة حتمية أن يثور ذلك الشعب أمام انهيار سواء كان انهيار لمسؤولى الحكم فى مصر أو انهيار داخل الكنيسة أو انهيار فى أى مركز سلطة، فيكشف الناس حقيقة القائمين عليه و لا يعودوا بعد يحترمونه و لا يعودوا بعد يخضعون له.
هى دعوة للتحرر...لإعمال العقل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق