يوماً ما، مر بك الناس..مروا بك و كأنك لأول مرة تراهم منذ أن رُزقت بولدك..بعشيقك..ذاك الفاسد. مروا بك و كأنهم قد إنتظروا حتى يفسد مَن قد حلمت يوماً أن يكون الأول بينهم. و إذ قد لمسوا فيه الفساد، أطلقوا عليك ألسنتهم و عايروك...عاتبوك و كأنك كنت تعلم كيف تصلحه و لم تفعل...عنفوك و كأنك تكاسلت فى تربيته...
دبت المرارة فى نفسك، خفت ألا يكون هناك سبيل لإصلاحه فبدأت تسترشد بهؤلاء القوم.و منذ ذاك الحين...تقسو عليه لأتفه الأسباب...تثور في وجهه بصوتك العالى...تضربه...تهينه...تراه يتأوه فتفرح إذ تظن أنك تصلحه...تفرح لأنك تحبه، تعشقه و قد أقنعوك أنه ما من سبيل إلا القسوة و الطغيان حتى تُصلح ما قد أفسدت.
سنوات و أصبحت كالمجنون، تارة تُنزل به أشد الضربات، تعذبه و تتمنى لو تُفنيه...و تارة تحاول أن تعطيه كل تلك الملذات التى كان قد تعود عليها فيما مضى...أصبحتما كلاكما مجنوناً فى عين الآخر...تعشقان بعضكما...تكرهان بعضكما...
*******
هذه القصة تخيلتها تعبيراً عن تلك العلاقة بين الشخص و جسده...هذه هى قصتنا معه، هكذا ظلمناه و هكذا نحاول إصلاحه. الجسد، الذى ضاع معناه فى مجتمعنا و تخيلناه كثيراً مرادفاً للذة، للشهوة و الجنس. ذلك الجسد الذى أصبح فى عقول الكثيرين منّا (و أنا من هؤلاء) حيوان متمرد يجب السيطرة عليه بكل الوسائل المشروعة و غيرها. هذا الجسد الذى أصبحنا نخاف من المجاهرة بحاجاته و متطلباته.
الأصل فى الحكاية هو الإعلان عن صدور مجلة "جسد" اللبنانية و التى سيكون عددها الأول فى ديسمبر 2008. بمجرد أن قرأت مقال رئيسة التحرير، أدركت بعض معانٍ كنت قد سمعتها و لم أدرك معناها. أدركت أن للجسد شخصيته التى تاهت...أدركت أن الجسد لم يقتصر يوماً على كونه وسيلة مساعدة للروح التى تسمو بنا، بل قد جعل الله لنا أجساداً كى نحياها كما يجب أن يكون. أدركت ما كانوا يعنونه بأن التجسد الإلهى هو تمجيد لهذا الجسد و إيفاء لحقه علينا. هذا الجسد الذى هو هيكل الحياة. أدركت فيما أدركت أننى تلقيت معنى آخر لهذا الجسد...معنى الـ"ركوبة" التى ما أن تُنهى دورها فى الحياة حتى تتبخر كما لو لم تكن يوماً...الجسد أسمى من أن يكون "ركوبة"
صحيح أن منابر أدياننا ربما تكون قد حاولت أن تشرح لنا كيف أنه هيكل الله و كيف أن على الإنسان إكرامه لأنه عطية الله، لكنها إستفاضت فى الوقت نفسه فى شرح كيف تتغلب على شهوة الجسد، كيف تُهلك شهوات الجسد فتسمو الروح...هكذا حتى أصبحنا فى سباق للقضاء على الجسد ذاته. أصبحنا غير مصدقين لأن يكون للجسد دوراً، أصبح الجسد فى أذهان الكثير منا ذلك العدو الذى أتاح الله فرصة وجوده كى ننتصر عليه بأرواحنا التى ترفض كل ما للجسد. أصبح الجسد مرادفاً للجسديات...الأرضيات...أصبحت كل طلباته سخيفة و شهوانية تستحق المعاداة.
كذلك فيما تذكرت من هذه "الصيحة" على الـ"Blogs" لمساندة المجلة، أن فى الحياة الأبدية أيضاً أجساد. بل و كان قد فاتنى أن الكلمة كان قد تجسد، كان فيه كل ما فينا لكننا ظللنا ننعت كل ما فى ذلك الجسد بالعيب حتى أصبحنا نخجل حتى فى تسمية أعضاؤه. فلربما تكون قضية مجلة كهذه هو التحرر من قيود المجتمع و الإنفتاح فى الحديث عن الهيكل المُهمل فى حياة كل مَن فينا...كى تنزع عنه وصمة البورنو كما يتضح من المقال...و ربما يجب علينا البدء فى تثقيف أجسادنا من هذا المنطلق...
ملحوظة: صحيح أنك قد تستشعر مرادفة الجسد للصور أو الأشعار الأيروتيكية، من مقال "جمانة حداد" لكننى تحدثت بمفهوم بعيد عن هذا. و نتمنى ألا يكون هذا هو قصدها الحقيقى من المجلة. أيضاً، لم تكن يوماً رسالة السماء فى إهلاك الجسد، لكن نحن من شوهناها.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق