الأربعاء، ١١ مارس ٢٠٠٩

السقامات



شحاته:  انظر إلى الناحية الأخرى من الشارع..أترى هذا الشئ الملقى هناك الذى يعف عليه الذباب..إنها جيفة كلب ميت منتفخ الجسد..انظر إليها جيداً..لا تشمئز كثيراً، و اسمع حكايتى التى سأقصها عليك:

  كنت أسير ذات يوم فى أحد الطرقات فرأيت الطريق قد أخلى و الناس مزدحمة على الأرصفة. و قد صفت الجنود على الجانبين، و سألت عن الخبر، فعلمت أن كبيراً سيمر، و أن الطريق قد أخلى له، حتى لا يعرقل سير موكبه رائح و لا غاد، و حتى لا يشاركه الطريق مار من البشر يفسد فخامته و أبهته، و بعد لحظة أقبل الموكب، خيل مطهمة و جند مدججون و حراس مزركشون و عربات مزينة مزخرفة...و مر الكبير، و هو يرفل فى أبهى مظاهر العظمة و الروعة، و أخذت فى مرآه، و بدا لى كأنه هبط من السماء، و أنه من المستحيل أن يكون بشراً مثلنا، بوجهه الأبيض المتورد و حلته الجوخ المزركشة بالقصب، و قد حفت به كوكبة من الفرسان برماحهم و سيوفهم.

و أحسست بالضآلة و الانكماش..و احتقرت نفسى احتقاراً شديداً. و مرت بضعة أشهر،  ثم سمعت أن الكبير قد مات..و وقفت أرقب جنازته، و بدا يمر موكبها رائعاً فخماً..لا يقل فخامة عن موكبه و هو حى..كانت فصائل الفرسان و الجنود يتقدمون النعش بملابسهم الزاهية الملونة تتخللهم الموسيقى العازفة الصادحة، و هى ترن على جانبى الطريق فتحدث صدى مروعاً، و بدأ النعش محمولاً على مدفع ضخم ملفوفف فى علم أخضر، تجره الجياد السود الضخام..و تحلت مقدمته بصنوف النياشين و الميداليات.

و تلا ذلك حشد زاخر من المشيعين يتقدمهم الرجال الرسميون بحللهم السود المزركشة، ثم تلت بعد ذلك وفود لا حصر لها.
و أخذت من روعة الموكب، و قلت لنفسى..تبارك الذى خلق.."علو فى الحياة و فى الممات"..و عظمة حتى بعد أن قضى.

مرتين كان فيهما الرجل الكبير رافلاً فى أبهى مظاهر الأبهة و الفخامة..تحف به مواكب الحراس و الجند..مظهرة أروع صورة  لعظمة الإنسان و سلطانه مما يجعل النفس تتضاءل بجوارها.

ثم رأيته فى المرة الثالثة !!!

انظر إلى جيفة الكلب المنتفخة النتننة الملقاة أمامك. لقد كان كذلك..لا يفترق عنها قيمة أنملة.

لقد تصادف أن مات قريب له بعد ذلك، و كان أقل منه قدراً مما سمح لى بأن اشترك فى زفافه حاملاً قمقمى لابساً حلتى و فوطتى، و دفن الرجل فى نفس مقبرة الكبير و تطوعت لحمل جثته داخل المقبرة و هبطت إلى المقبرة.

و هناك وجدت الآخر..بلا فخامة و لا أبهة..ملقى كالقربة الملأى التى تحملها على ظهرك أو كالخروف المذبوح الذى نفخه الجزار إعداداً لسلخة..بلا حراس و لا جنود، و لا موسيقى و لا مواكب..اللهم إلا مواكب الدود..دود علدى لا يلبس التشريفة و لا يمسك رماحاً و لا سيوفاً..دود بسيط كذلك الذى يحف بجثتك و جثتى و جثة هذا الكلب !!

و لكن الإنسان المغرور يكره أن يقارن نفسه بالكلب أو بالمقعد أو بأى مخلوق من المخلوقات...ففرض بقاء الشئ غير الملموس و الذى لا يدرى كنهه و لا يستطيع تحديده ألا و هو الروح...

..كلها أعوام..و الأعوام تمر على الزمن الطويل كالدقائق، ثم تلقى صاحب العزة و صاحب السعادة و صاحب الرفعة و صاحب أفخم لقب على الأرض ممدد الأطراف منفوخ البطن لا يحميه من عادية الدود قانون و لا يصون ذاته الكريمة التى لا تمس صائن، و لا يقى جثته الممرغة فى التراب المشرفة للمقبرة..واق و لا حام.

ليس هناك أحقر من البشر و لا أغفل...هذا هو الموت يا صاحبى و هؤلاء هم البشر. نهاية طبيعية..لمخلوقات غير طبيعية.

من رواية "السقامات"...يوسف السباعى

ليست هناك تعليقات: