هل تساءلت يوماً مغزى أن يعلق صاحب محل فراشة أو صاحب معرض سيارات لقماشة تحمل تأييد لمرشح مجلس الشعب. أو هل دار بذهنك سر أن ينشر أحد التجار تهنئة بعيد ميلاد الرئيس أو تحية حارة لأحد الوزراء الذين زاروا بلدة التاجر المذكور. لا أعلم إن كان السيد العضو أو معالى الوزير أو الريس يتابعون جيداً ما يُنشر، لأن المسؤولين ليسوا مسؤولين عن متابعة كل الصحف و الجرائد. و أظن أنه لا تصل كل هذه التهنئات إلى أصحاب المعالى حتى و إن كان هناك موظفاً مختصاً بجمعها فى كشوف حتى يتطلع عليها حضرة المسؤول. و لكن الأكيد أن نشر إعلان كبير الحجم و التكلفة، ليس هو الحل الوحيد كى تصل التهنئة أو التأييد من شخص و إلى شخص آخر. فإن تجمعت لدينا بعض هذه الحقائق، يأتى السؤال عما هو إذاً الدافع الحقيقى وراء أن يتكلف شخص ملايين أو آلاف أو حتى مئات الجنيهات حتى يبعث برسالة تأييد أو تهنئة أو شكر أو عزاء إلى شخص آخر، و هو يعلم أنه قد لا تصل رسالته؟؟؟
كلما زادت قوة الشخص، كلما استطاع الإستقلال عن الجماعة. هذه حقيقة تتجلى لنا على أى مستوى من المستويات، فالإبن يستقل بحياته عن أبيه إذا كبر و أصبح قادراً على مواجهة الظروف، و الموظف يستقل بعمله إذا كانت لديه قدرة مالية على تأسيس عمل خاص به، و كذلك أى متطرف أو زعيم سياسى بستقل بحكم البلد إذا كانت لديه القوة و النفوذ القادران على ذلك. فيصبح معيار قوة الشخص بمدى إستطاعته الخروج عن جلباب الأكبر منه. أما الطفل فهو فقط من يلزم بجوار أمه حتى إذا اقترب إليه شخص آخر، علا صراخه حتى تدفع عنه الأم الأذى.
فقط عليك أن تنزل إلى الشارع كى ترى الأطفال فى كل مكان؛ طفل يستنجد باللواء (فلان) بعد أن أقفته اللجنة فى الشارع و هو يريد الإفلات من الغرامة، أو طفل يتحدث إلى سيادة العقيد (فلان) كى يأتى إليه و قد اصطدمت سيارته بأخرى و هو عايز حقه، أو طفل يدخل مختلساً إلى مصلحة أو بنك يحمل كارت من السيد (فلان الفلانى) الذى يرعب بكارته الموظفين...(to finish his papers...fast). أطفال فى كل مكان، أطفال يريدون الإفلات من العقاب، و أطفال يريدون الإفلات من التجنيد، و أطفال يريدون دخول الأماكن المحظورة عليهم، و أطفال يريدون التعيين، و أطفال يريدون الترقيات. فقط عليه أن يظهر أن له (ضهر) حتى تدرك أن هذا كالآخرين...طفل آخر.
هنا بدأت مشكلتنا مع السلطة، فاستبداد السلطة لم يبدأ أبداً برئيس يستبد بالآخرين، لكن الحقيقة أن استبداد السلطة بدأ من أسفل، حين كبّر و عظّم العامة من سلطان الرئيس و توددوا إليه و حاولوا استرضاؤه حتى يكونوا هم الأقرب إليه و يعيشوا فى ظله و تحت رعايته...هكذا شعر الرئيس (أى رئيس) بمدى نفوذه و أخذ يمارس سلطاته على الآخرين و لم يعارضه أحد، لأنهم فقط يريدون رضاه و مساعدته. فالواقع و التاريخ يقولان أن الشعب هو من صنع استبداد السلطان أولاَ و ليس السلطان هو من استبد بالشعب أولاً.
لهذا يمكننا القول بأن العامة من الناس إذا كانت لم تنضج بعد، فهى جماعة أطفال تستمتع بأن تعيش فى حماية شخص آخر يُمثل الحماية أو مجرد أن يكون مسؤولاً عن هذه الجماعة فتستنجد به إذا جاءها أذى، و تمشى فى خطاه و مهما قال يُنفذ، و مهما تذمرت هذه الجماعة أو ثارت فهى لا تخرج عن طوع السلطان، فقط لأنها جماعة غير ناضجة. و قد صدق كمال الفولى (خالد صالح) حين قال: الشعب ماسك فى ديل الحكومة كأنها أمه اللى خلفته، حتى لو الحكومة دى ماشية على حل شعرها.
و لقد رأيت بنفسى مثالين لشخصين، واحد جلست أستمع إليه فى أحد المرات و كان يسب و يلعن أحد القيادات الدينية، ثم مرت أيام حتى وجدت لافته تحمل صورته من ناحية و صورة رجل الدين الذى سبه من ناحية و كانت لافتة تأييد أو تهنئة من صاحبنا لرجل الدين. و مثال آخر كان لأحد أقاربى الذين داوموا فى أى جلسة كالآخرين على ذكر رئيس الجمهورية بالأوصاف الحقيرة، حتى أتته فرصة لقاء إذاعى (يا ريت تلفزيونى) و بدون أن يُسأل أصلاً و بدون أن يأتى رئيس الجمهورية فى الحوار وجدته يبجل الرئيس و يذكره بأنه صاحب الفضل فى السلام الاجتماعى فى مصر. لا أظنهم يخافون، أبداً، و لا أظن حتى أن رجل الدين أو رئيس الجمهورية سيمارسوا عليهم أى اضطهاد إذا لم يبجلوهم...هم فقط مثال على الرعية التى تحب البقاء فى ظِل من هو أكبر منها.
و إن تأملت جيداً حال المصريين، وجدتهم يتأخرون فى عقليتهم، حالهم كحال شعوب أخرى، تخلصوا من سطوة الحكام الطغاة و الملوك كى يصنعوا هم ملوكهم بأيديهم. و أصبح المصرى ليس فقط يستنجد بـ"الكبير" وقت الزنقة بل أصبح يعمل حساب الغد و يكتب قصائد زجل فى صاحب السلطة مقدماً. و أصبح كل (طفل) من هؤلاء يتفاخر بأنه طفل و أنه على استعداد لتقديم كل الولاء لـ"الكبير"، فأخذوا ينشرون التهانى و التحيات كى يراها و يسمعها كل كبير و صغير...أنا طفل و هذه بصمتى و أنا أستطيع أن أدفع الأموال لقاء أن يعرف الآخرين أننى أحب أن يتسلط على آخر و أستمتع بسلطة هذا الآخر.
ولا يخرج الشعب غير الناضج عن طوع صاحب المعالى إلا إذا ذاع فساد صاحب المعالى جداً، أو إذا زاد استبداده عن المستوى الذى سمحت به الرعية. أما إذا ظل يرتع فى الحدود المسموح بها من الفساد و الاستبداد فالشعب يرحب به جداً و يقول له...كماااان.
اللهم هبنا النضج إنك بحالنا أعلم العالمين
هناك تعليقان (٢):
There is no particular comment except to show my admiration with this true and organized analysis
Just thought i would let u know that I enjoyed reading it
CHapeau ya archiee...I don't know why I Didn't read this before ..
I want to tell u that you said what I was wandering about a long time ago ..but wasn't able to reach that conclusion ...Good Job (Y).
إرسال تعليق